فصل: ذكر صلح خوارز مشاه وفتح خام جرد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم ففتح حصوناً ثلاثة وجلا أهل سوسنة إلى بلاد الروم. وفي هذه السنة غزا قتيبة سجستان في قول بعضهم، وأراد قصد رتبيل الأعظم، فلما نزل قتيبة سجستان أرسل رتبيل إليه رسلاً بالصلح، فقبل ذلك وانصرف واستعمل عليهم عبد ربه بن عبد الله الليثي.
وحج بالناس هذه السنة عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة؛ وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم.
وفيها مات مالك بن أوس بن الحدثان البصري، من ولد نصر بن معاوية، بالمدينة، وله أربع وتسعون سنة. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وتسعين:

.ذكر صلح خوارز مشاه وفتح خام جرد:

وفي هذه السنة صالح قتيبة خوارز مشاه.
وكان سبب ذلك أن ملك خوارزم كان ضعيفاً فغلبه أخوه خرزاد على أمره، وكان أصغر منه، وكان إذا بلغه أن عند أحد ممن هو منقطع إلى الملك جارية أو مالاً أو دابة أو بنتاً أو أختاً أو امرأة جميلة أرسل إليه وأخذه منه، وكان لا يمتنع عليه أحد ولا الملك، فإذا قيل للملك قال: لا أوى به وهو مغتاظ عليه.
فلما طال ذلك عليه كتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه ليسلمها إليه، واشترط عليه أن يدفع إليه أخاه وكل من يضاده ليحكم فيهم بما يرى، ولم يطلع أحد من مرازبته على ذلك، فأجابه قتيبة إلى ما طلب وتجهز للغزو، وأظهر قتيبة أنه يريد الصغد، وسار من مرو، وجمع خوارز مشاه أجناده ودهاقنته، فقال: إن قتيبة يريد الصغد وليس يغازيكم، فهلموا نتنعم في ربيعنا هذا.
فأقبلوا على الشرب والتنعم، فلم يشعروا حتى نزل قتيبة في هزار سب، فقال خوارز مشاه لأصحابه: ما ترون؟ قالوا: نرى أن نقاتله. قال: لكني لا أرى ذلك لأنه قد عجز عنه من هو أقوى منا وأشد شوكة، ولكن أصرفه بشيء أؤديه إليه. فأجابوه إلى ذلك.
فسار خوارز مشاه فنزل بمدينة الفيل من وراء النهر، وهي أحصن بلاده، وقتيبة لم يعبر النهر، فأرسل إليه خوارز مشاه فصالحه على عشرة آلاف رأس وعين ومتاع وعلى أن يعينه على خام جرد، فقبل قتيبة ذلك.
وقيل: صالحه على مائة ألف رأس، ثم بعث قتيبة أخاه عبد الرحمن إلى خام جرد، وكان يغازي خوارز مشاه، فقاتله فقتله عبد الرحمن وغلب على أرضه، وقدم منهم بأربعة آلاف أسير، فقتلهم قتيبة، وسلم قتيبة إلى خوارز مشاه أخاه ومن كان يخالفه، فقتلهم ودفع أموالهم إلى قتيبة ودخل قتيبة إلى فيل، فقبل بن خوارزم شاه ما صالحه عليه ثم رجع إلى هزار سب.

.ذكر فتح سمرقند:

فلما قبض قتيبة صلح خوارز مشاه قال إليه المجشر بن مزاحم السلمي. فقال له سراً: إن أردت الصغد يوماً من الدهر فالآن فإنهم آمنون من أن يأتيهم عامل هذا، وإنما بينك وبينهم عشرة أيام. قال: أشار عليك بهذا أحد؟ قال: لا. قال: فسمعه منك أحد؟ قال: لا. قال: والله لئن تكلم به أحد لأضربن عنقك.
فلما كان الغد أمر أخاه عبد الرحمن فسار في الفرسان والرماة وقدم الأثقال إلى مرو فسار يومه، فلما أمسى كتب إليه قتيبة: إذا أصبحت فوجه الأثقال إلى مرو وسر بالفرسان والرماة نحو الصغد واكتم الأخبار، فإني في الأثر. ففعل عبد الرحمن ما أمره، وخطب قتيبة الناس وقال لهم: إن الصغد شاغره برجلها، وقد نقضوا العهد الذي بيننا وصنعوا ما بلغكم، وإني أرجو أن يكون خوارزم والصغد كقريظة والنضير. ثم سار فأتى الصغد فبلغها بعد عبد الرحمن بثلاث أو أربع، وقدم معه أهل خوارزم وبخارى فقاتلوه شهراً من وجه واحد وهم محصورون.
وخاف أهل الصغد طوال الحصار فكتبوا إلى ملك الشاش وخاقان واخشاد فرغانة: إن العرب إن ظفروا بنا أتوكم بمثل ما أتونا به، فانظروا لأنفسكم ومعهما كان عندك من قوة فابذلوها. فنظروا وقالوا: إنما نؤتى من سفلتنا فإنهم لا يجدون كوجدنا. فانتخبوا من أولاد الملوك وأهل النجدة من أبناء المرازبة والأساورة والأبطال وأمروهم أن يأتوا عسكر قتيبة فيبيتوه فإنه مشغول عنه بحصار سمر قند، وولوا عليه ابناً لخاقان، فساروا.
وبلغ قتيبة الخبر فانتخب من عسكره أربعمائة، وقيل: ستمائة من أهل النجدة والشجاعة وأعلمهم الخبر وأمرهم بالمسير إلى عدوهم، فساروا وعليهم صالح بن مسلم، فنزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم، فجعل صالح له كمينين، فلما مضى نصف الليل جاءهم عدوهم، فلما رأوا صالحاً حملوا عليه، فلما اقتتلوا شد الكمينان عن يمين وشمال فلم ير قوم كانوا أشد من أولئك. قال بعضهم: إنا لنقاتلهم إذ رأيت تحت الليل قتيبة وقد جاء سراً فضربت ضربةً أعجبتني. فقلت: كيف نرى بأمي وأبي؟ قال: اسكت فض الله فاك. قال: فقتلناهم فلم يفلت منهم إلا الشريد، وحوينا أسلابهم وسلاحهم فاحتززنا رؤوسهم وأسرنا منهم أسرى، فسألناهم عمن قتلنا فقالوا: ما قتلتم إلا ابن ملك أو عظيماً أو بطلاً، كان الرجل يعد بمائة رجل، وكتبنا أسماءهم على آذانهم ثم دخلنا العسكر حين أصبحنا، فلم يأت أحد بمثل ما جئنا به من القتلى والأسرى والخيل ومناطق الذهب والسلاح، قال: وأكرمني قتيبة وأكرم معي جماعة وظننت أنه رأى منهم مثل الذي رأى مني.
ولما رأى الصغد ذلك انكسروا، ونصب قتيبة عليهم المجانيق فرماهم وثلم ثلمةً، فقام عليها رجل شتم قتيبة، فرماه بعض الرماة فقتله، فأعطاه قتيبة عشرة آلاف. وسمع بعض المسلمين قتيبة وهو يقول كأنما يناجي نفسه: حتى متى يا سمرقند يعشش فيك الشيطان؟ أما والله لئن أصبحت لأحاولن من أهلك أقصى غاية. فانصرف ذلك الرجل فقال لأصحابه: كم من نفس تموت غداً! وأخبر الخبر. فلما أصبح قتيبة أمر الناس بالجد في القتال، فقاتلوهم واشتد القتال، وأمرهم قتيبة أن يبلغوا ثلمة المدينة، فجعلوا الترسة على وجوههم وحملوا فبلغوها ووقفوا عليها، ورماهم الصغد بالنشاب فلم يبرحوا. فأرسل الصغد إلى قتيبة فقالوا له: انصرف عنا اليوم حتى نصالحك غداً. فقال قتيبة: لا نصالحهم إلا ورجالنا على الثملة، وقيل: بل قال قتيبة: جزع العبيد، انصرفوا على ظفركم، فانصرفوا فصالحهم من الغد على ألفي ألف ومائتي ألف مثقال في كل عام، وأن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف فارس، وأن يخلوا المدينة لقتيبة فلا يكون لهم فيها مقاتل فيبني فيها مسجداً ويدخل ويصلي ويخطب ويتغدى ويخرج.
فلما تم الصلح وأخلوا المدينة وبنوا المجد دخلها قتيبة في أربعة آلاف انتخبهم، فدخل المسجد فصلى فيه وخطب وأكل طعاماً ثم أرسل إلى الصغد: من أراد منكم أن يأخذ متاعه فليأخذ فإني لست خارجاً منها ولست آخذ منكم إلا ما صالحتكم عليه، غير أن الجند يقيمون فها.
وقيل: إنه شرط عليهم في الصلح مائة ألف فارس وبيوت النيران وحلية الأصنام، فقبض ذلك، وأتي بالأصنام فكانت كالقصر العظيم وأخذ ما عليها وأمر بها فأحرقت. فجاءه غوزك فقال: إن شكرك علي واجب، لا تتعرض لهذه الأصنام فإن منها أصناماً من أحرقها هلك. فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي، فدعا بالنار فكبر ثم أشعلها فاحترقت، فوجدوا من بقايا مسامير الذهب خمسين ألف مثقال.
وأصاب بالصغد جارية من ولد يزدجرد، فأرسلها إلى الحجاج، فأرسلها الحجاج إلى الوليد، فولدت له يزيد بن الوليد.
وأمر غوزك بالانتقال عنها فانتقل.
وقيل: إن أهل سمرقند خرجوا على المسلمين وهم يقاتلونهم يوم فتحها، وقد أمر قتيبة يومئذٍ بسرير فأبرز وقعد عليه، فطاعنوهم حتى جازوا قتيبة وإنه لمحتبٍ بسيفه ما حل حبوته، وانطوت مجنبتا المسلمين على الذين هزموا القلب فهزموهم حتى ردوهم إلى عسكرهم، وقتل من المشركين عدد كثير، ودخلوا المدينة فصالهم، وصنع غوزك طعاماً ودعا قتيبة، فأتاه في عدة من أصحابه، فلما بعد استوهب منه سمرقند وقال للملك: انتقل عنها، فلم نجد بداً من طاعته، ولا قتيبة قوله تعالى: {وأنه أهلك عاداً الأولى وثمود فما أبقى} النجم: 50- 51.
وحكي عن الذي أرسله قتيبة إلى الحجاج بفتح سمرقند قال: فأرسلني الحجاج إلى الوليد، فقدمت دمشق قبل طلوع الفجر فدخلت المسجد فإذا إلى جنبي رجل ضرير، فسألني: من أين أنت؟ فقلت: من خراسان، وأخبرت خبر سمرقند. فقال: والذي بعث محمداً بالحق ما افتتحتموها إلا غدراً! وإنكم يا أهل خراسان الذين تسلبون بني أمية ملكهم ثم تنقضون دمشق حجراً حجراً. فلما فتح قتيبة سمرقند قيل: إن هذا لأعدى العيرين، لأنه فتح سمرقند وخوارزم في عام واحد، وذلك أن الفارس إذا صرع في طلق واحد عيرين قيل: عادى عيرين فلما فتحها قتيبة دعا نهار بن توسعة فقال: يا نهار أين قولك.
ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ** ومات الندى والجود بعد المهلب

أقاما بمرو الروذ رهن ضريحه ** وقد غيبا عن كل شرقٍ ومغرب

أفغزو هذا؟ قال: لا، هذا أحسن، وأنا الذي أقول:
وما كان مذ كنا ولا كان قبلنا ** ومات الندى والجود بعد المهلب

أعم لأهل الشرك قتلاً بسيفه ** وأكثر فينا مقسماً بعد مقسم

قال: وقال الشعراء في ذلك، فقال الكميت من قصيدة:
كانت سمرقند أحقاباً يمانيةً ** فاليوم تنسبها قيسيةً مضر

وقال كعب الأشقري، وقيل رجل من جعفى:
كل يوم يحوي قتيبة نهباً ** ويزيد الأموال مالاً جديدا

باهلي قد ألبس التاج حتى ** شاب منه مفارق كن سودا

دوخ الصغد بالكتائب حتى ** ترك الصغد بالعراء قعودا

فوليد يبكي لفقد أبيه ** وأب موجع يبكي الوليدا

ثم رجع قتيبة إلى مرو، وكان أهل خراسان يقولون: إن قتيبة غدر بأهل سمرقند فملكها غدراً.
وكان عمله على خوارزم إياس بن عبد الله على حربها، وكان ضعيفاً، وكان على خراجها عبيد الله بن أبي عبيد الله مولى مسلم.فاستضعف أهل خوارزم إياساً، فجمعوا له، فكتب عبيد الله إلى قتيبة، فبعث قتيبة أخاه عبد الله عاملاً وأمره أن يضرب إياساً وحيان النبطي مائةً مائةً ويحلقهما. فلما قرب عبد الله من خوارزم أرسل إلى إياس فأنذره، فتنحى، وقدم عبد الله وأخذ حيان فضربه وحلقه. ثم وجه قتيبة الجنود إلى خوارزم مع المغيرة بن عبد الله، فبلغها ذلك، فلما قدم المغيرة اعتزل أبناء الذين قتلهم خوارزمشاه وقالوا: لا نعينك، فهرب إلى بلاد الترك، وقدم المغيرة فقتل وسبى، فصالحه الباقون على الجزية، وقدم على قتيبة فاستعمله على نيسابور.

.ذكر فتح طليطلة من الأندلس:

قال أبو جعفر: وفي هذه السنة غضب موسى بن نصير على مولاه طارق فسار إليه في رجب منها، واستخلف على إفريقية ابنه عبد الله بن موسى، وعبر موسى إلى طارق في عشرة آلاف، فتلقاه وترضاه، فرضي عنه وقبل عذره وسيره إلى طليطلة، وهي من عظام بلاد الأندلس، وهي من قرطبة على عشرين يوماً، ففتحها وأصاب فها مائدة سليمان بن داود، عليه السلام، وما فيها من الذهب والجوهر، والله أعلم به.
قلت: لم يزد على هذا، وقد ذكرت في سنة اثنتين وتسعين من فتح الأندلس ودخول موسى بن نصير إلى طارق ما فيه كفاية فلا حاجة إلى إعادته؛ إلا أن أبا جعفر قد ذكر أن موسى هو الذي سير طارقاً وهو بالأندلس ففتح مدينة طليطلة، والذي ذكره أهل الأندلس في تواريخهم ما تقدم ذكره.

.ذكر عزل عمر بن عبد العزيز عن الحجاز:

قيل: وفي هذه السنة عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن الحجاز والمدينة.
وكان سبب ذلك أن عمر كتب إلى الوليد يخبره بعسف الحجاج أهل العراق واعتدائه عليهم وظلمه لهم بغير حق، فبلغ ذلك الحجاج فكتب إلى الوليد: إن من عندي من المراق وأهل الشقاق قد جلوا عن العراق ولحقوا بالمدينة ومكة، وإن ذلك وهن. فكتب إليه الوليد يستشيره فيمن يوليه المدينة ومكة، فأشار عليه بخالد بن بد الله وعثمان بن حيان، فولى خالداً مكة، وعثمان المدينة، وعزل عمر عنهما.
فلما خرج عمر من المدينة قال: إني أخاف أن أكون ممن نفته المدينة، يعني بذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنفي خبثها.
وكان عزله في شعبان؛ ولما قدم خالد مكة أخرج من بها من أهل العراق كرهاً، وتهدد من أنزل عراقياً أو أجره داراً، واشتد على أهل المدينة وعسفهم وجار فيهم ومنعهم من إنزال عراقي، وكانوا أيام عمر بن عبد لعزيز كل من خاف الحجاج لجأ إلى مكة والمدينة.
وقيل: إنما استعمل على المدينة عثمان بن حيان، وقد تقدم سنة إحدى وتسعين ولاية خالد مكة في قول بعضهم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة غزا العباس بن الوليد الروم ففتح سبسطية والمرزبانين وطرسوس. وفيها غزا مروان بن الوليد فبلغ خنجرة. وفيها غزا مسلمة الروم أيضاً ففتح ماسيسة وحصن الحديد وغزالة من ناحية ملطية. وفيها أجدب أهل إفريقية فاستسقى موسى بن نصير فسقوا. وفيها كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز قبل أن يعزله يأمره بضرب خبيب بن عبد الله بن الزبير ويصب على رأسه ماءً بارداً، فضربه خمسين سوطاً وصب عليه ماءً بارداً في يوم شاتٍ ووقفه على باب المسجد فمات من يومه.
خبيب بضم الخاء المعجمة، وبائين موحدتين بينهما ياء تحتها نقطتان.
وحج بالناس هذه السنة عبد العزيز بن الوليد. وكان على الأمصار من تقدم ذكرهم إلا المدينة فإن عاملها عثمان بن حيان قدمها في شوال لليلتين بقيتا منه، وقد تقدم ذكر ولاية خالد بن عبد الله مكة في سنة تسع وثمانين، وفي سنة إحدى وتسعين قد ذكرنا أنه وليها هذه السنة.
وفيها مات أبو الشعثاء جابر بن زبد. وألو العالية البراء، واسمه زيدا بن فيروز، وكان مولى لأعرابية من بني رياح، وليس بأبي العالية الرياحي، ذاك كان موته سنة تسعين. وفيها مات بلال بن أبي الدرداء الأنصاري قاضي دمشق. ثم دخلت:

.سنة أربع وتسعين:

.ذكر قتل سعيد بن جبير:

قيل: وفي هذه السنة قتل سعيد بن جبير.
وكان سبب قتله خروجه مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وكان الحجاج قد جعله على عطاء الجند حين وجه عبد الرحمن إلى رتبيل لقتاله، فلما خلع عبد الرحمن الحجاج كان سعيد فيمن خلع، فلما هزم عبد الرحمن ودخل بلاد رتبيل هرب سعيد إلى أصبهان، فكتب الحجاج إلى عامل بأخذ سع، فخرج العامل من ذلك. فأرسل إلى سعيد يعرفه ذلك ويأمره بمفارقته، فسار عنه فأتى أذربيجان فطال عليه القيام فاغتم بها، فخرج إلى مكة فكان بها هو وأناس أمثاله يستخفون فلا يخبرون أحداً أسماءهم.
فلما ولي خالد بن عبد الله مكة قيل لسعيد: إنه رجل سوء فلو سرت عن مكة. فقال والله لقد فررت حتى استحييت من الله وسيجيئني ما كتب الله لي. فلما قدم خالد مكة كتب إليه الوليد بحمل أهل العراق إلى الحجاج، فاخذ سعيد بن جبير ومجاهداً وطلق بن حبيب فأرسلهم إليه، فمات طلق بالطريق وحبس مجاهد حتى مات الحجاج.
وكان سيرهم مع حرسين، فانطلق أحدهما لحاجة وبقي الآخر، فقال لسعيد، وقد استيقظ من نومه ليلاً: يا سعيد إني أبرأ إلى الله من دمك، إني رأيت في منامي فقيل لي: ويلك! تبرأ من دم سعيد بن جبير! فاذهب حيث شئت فإني لا أطلبك. فأبى سعيد، فرأى ذلك الحرس مثل تلك الرؤيا ثلاثاً ويأذن لسعيد في الذهاب وهو لا يفعل.
فقدموا به الكوفة فانزل في داره، وأتاه قراء الكوفة، فجعل يحدثهم وهو يضحك وبنية له في حجره، فلما نظرت إلى القيد في رجله بكت، ثم أدخلوه على الحجاج، فلما أتي به قال: لعن الله ابن النصرانية! يعني خالداً، وكان هو أرسله، أما كنت أعرف مكانه؟ بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكة. ثم أقبل عليه فقال: يا سعيد ألم أشركك في إمامتي؟ ألم أفعل؟ ألم أستعملك؟ قال: بلى. قال: فما أخرجك علي؟ قال: إنما أنا امرؤ من المسلمين يخطئ مرة ويصيب مرة. فطابت نفس الحجاج قم عاوده في شيء، فقال: إنما كانت بيعة في عنقي؛ فغضب الحجاج وانتفخ وقال: يا سعيد ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير وأخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: بلى. قال: فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين وتوفي بواحدة للحائك ابن الحائك؛ والله لأقتلنك قال: إني إذاً لسعد كما سمتني أمي. فأمر به فضربت رقبته، فبدر رأسه عليه كمة بيضاء لاطية، فلما سقط رأسه هلل ثلاثاً، افصح بمرة ولم يفصح بمرتين.
فلما قتل التبس عقل الحجاج فجعل يقول: قيودنا قيودنا! فظنوا أنه يرد القيود، فقطعوا رجلي سعيد من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود، وكان الحجاج إذا نام يراه في منامه يأخذ بمجامع ثوبه، فيقول: يا عدو الله فيم قتلتني؟ فيقول: مالي ولسعيد بن جبير! مالي ولسعيد بن جبير!

.ذكر غزوة الشاش وفرغانة:

في هذه السنة قطع قتيبة النهر وفرض على أهل بخارى وكش ونسف وخوارزم عشرين ألف مقاتل فساروا معه، فوجههم إلى الشاش وتوجه هو إلى فرغانة فأتى خجندة، فجمع له أهلها فلقوه فاقتتلوا مراراً، كل ذلك يكون الظفر للمسلمين. ثم إن قتيبة أتى كاشان مدينة فرغانة وأتاه الجنود الذين وجههم إلى اشاش وقد فتحوها وأحرقوا أكثرها وانصرف إلى مرو؛ وقال سحبان يذكر قتالهم بخجندة فقال:
فسل الفوارس في خجن ** دة تحت مرهقة العوالي

هل كنت أجمعهم إذا ** هزموا وأقدم في القتال

أم كنت أضرب هامةال ** عافي وأصبر للعوالي

هذا وأنت قريع قي ** سٍ كلها ضخم النوال

وفضلت قيساً في الندى ** وأبوك في الحجج الخوالي

ولقد تبين عدل حك ** مك فيهم في كلأ حال

تمت مروءتكم ونا ** غى عزكم غلب الجبال

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة غزا العباس بن الوليد أرض الروم ففتح إنطاكية. وفيها غزا عبد العزيز بن الوليد فبلغ غزالة، وبلغ الوليد بن هشام المعيطي برج الحمام، ويزيد بن أبي كبشة أرض سورية. وفيها كانت الزلازل بالشام ودامت أربعين يوماً فخربت البلاد، وكان عظم ذلك في إنطاكية. وفيها افتتح القاسم بن محمد الثقفي أرض الهند.
وتوفي في هذه السنة علي بن الحسين في أولها. ثم عروة بن الزبير. ثم سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
واستقضى الوليد على الشام سليمان بن حبيب. وحج بالناس مسلمة بن عبد الملك، وقيل: عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، وكان العامل بمكة خالد بن عبد الله، وبالمدينة عثمان بن حيان، وبمصر قرة بن شريك، وبخراسان قتيبة من قبل الحجاج. ثم دخلت:

.سنة خمس وتسعين:

.ذكر غزوة الشاش:

قيل: وفي هذه السنة بعث الحجاج جيشاً من العراق إلى قتيبة فغزا بهم، فلما كان بالشاش أو بكشماهان أتاه موت الحجاج في شوال منها، فغمه ذلك وتمثل يقول:
لعمري لنعم المرء من آل جعفرٍ ** بحوران أمسى أعلقته الحبائل

فإن نحي لي أملك حياتي وإن تمت ** فما في حياةٍ بعد موتك طائل

ورجع إلى مرو وتفرق الناس، فأتاه كتاب الوليد: قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجدك واجتهادك في جهاد أعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك الذي يجب لك، فالمم مغازيك وانتظر ثواب ربك ولا تغب عن أمير المؤمنين كتبك حتى كأني أنظر إلى بلائك والثغر الذي أنت فيه.

.ذكر وفاة الحجاج بن يوسف:

قيل: إن عمر بن عبد العزيز ذكر عنده ظلم الحجاج وغيره من ولاة الأمصار أيام الوليد بن عبد الملك، فقال: الحجاج بالعراق، والوليد بالشام، وقرة بمصر، وعثمان بالمدينة، وخالد بمكة، اللهم قد امتلأت الدنيا ظلماً وجوراً فأرح الناس! فلم يمض غير قليل حتى توفي الحجاج وقرة بن شريك في شهر واحد، ثم تبعهما الوليد وعزل عثمان وخالد، واستجاب الله لعمر.
وما أشبه هذه القصة بقصة ابن عمر مع زياد بن أبيه حيث كتب؟إلى معاوية يقول له: قد ضبطت العراق بشمالي ويميمني فارغة. يعرض بإمارة الحجاز. فقال ابن عمر لما بلغه ذلك: اللهم أرحنا من يمين زياد وأرح أهل العراق من شماله. فكان أول خبر جاءه موت زياد.
وكانت وفاة الحجاج في شوال سنة خمس وتسعين، وقيل: كانت وفاته لخمس بقين من شهر رمضان وله من العمر أربع وخمسون سنة، وقيل: ثلاث وخمسون سنة، وكانت ولايته العراق عشرين سنة، ولما حضرته الوفاة استخلف على الصلاة ابنه عبد الله بن الحجاج، واستخلف على حرب الكوفة والبصرة يزيد بن أبي كبشة، وعلى خراجهما يزيد بن أبي مسلم، فأقرهما الوليد بعد موته ولم يغير أحداً من عمال الحجاج.

.ذكر نسبة وشيء من سيرته:

هو الحجاج ين يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف أبو محمد الثقفي.
قال قتيبة بن مسلم: خطبنا الحجاج فذكر القبر، فما زال يقول: إنه بيت الوحدة، إنه بيت الغربة، وبيت كذا وكذا حتى بكى وأبكى، ثم قال: سمعت أمرر المؤمنين عبد الملك يقول: سمعت مروان يقول في خطبته: خطبنا عثمان فقال في خطبته: ما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى قبر أو ذكره إلا بكى. وقد روي أحاديث غير هذا عن ابن عباس وأنس.
وقال ابن عوف: كنت إذا سمعت الحجاج يقرأ عرفت أنه طالما درس القرآن. وقال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحجاج ومن الحسن، وكان الحسن أفصح. وقال عبد الملك بن عمير: قال الحجاج يوماً: من كان له بلاء فليقم فنعطيه على بلائه. فقام رجل فقال: أعطني على بلائي. قال: وما بلاؤك؟ قال: قتلت الحسن. قال: فكيف قتلته؟ قال: دسرته بالرمح درسراً، وهبرته بالسيف هبراً، وما أشركت معي في قتله أحداً. قال: فإنك لا تجتمع أنت وهو في مكان واحد. وقال: اخرج! ولم يعطه شيئاً.
قيل: كتب عبد الملك إلى الحجاج يأمره بقتل أسلم بن عبد البكري بشيء بلغه عنه، فأحضره الحجاج وقال: أمير المؤمنين غائب وأنت حاضر، والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا إن جاء كم فاسق بنبإ فتبينوا} الحجرات: 6 الآية؛ والذي بلغه عني باطل، فاكتب إلى أمير المؤمنين أني أعول أربعاً وعشرين امرأة وهن بالباب، فاحضرهن، فهذه أمه، وهذه عمته وزوجته وابنته، وكان في آخر هن جارية قاربت عشر سنين. فقال لها: من أنت منه؟ قالت ابنته، أصلح الله الأمير! ثم أنشأت تقول:
أحجاج لم تشهد مقام بناته ** وعماته يندبنه الليل أجمعا

أحجاج لم تقبل به أن قتله ** ثماناً وعشراً واثنتين وأربعا

أحجاج من هذا يقوم مقامه ** علينا فمهلاً إن تزدنا تضعضعا

أحجاج إما أن تجود بنعمةٍ ** علينا وإما أن تقتلنا معا

فبكى الحجاج وقال: والله لا أعنت الدهر عليكن ولا زدتكن تضعضعاً وكتب إلى عبد الملك بخبر الرجل والجارية، فكتب إليه عبد الملك: إن كان الأمر كما ذكرت فأحسن صلته وتفقد الجارية. ففعل.
وقال عاصم بن بهدلة: سمعت الحجاج يقول: اتقوا الله ما استطعتم، هذا والله مثنوية، واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ليس في مثنوية، والله لو أمرتكم أن تخرجوا من هذا الباب فخرجتم من هذا حلت لي دماؤكم؟، ولا أجد أحداً يقرأ علي قراءة ابن أم عبد، يعني ابن مسعود، إلا ضربت عنقه، ولأحكنها من المصحف ولو بضلع خنزير؛ قد ذكر ذلك عند الأعمش. فقال: وأنا سمعته يقول: فقلت في نفسي لأقرأنها على رغم أنفك.
قال الأوزاعي: قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم. قال منصور: سألنا إبراهيم الشجاعي عن الحجاج فقال: ألم يقل الله {ألا لعنة الله على الظالمين} [هود: 18] قال الشافعي: بلغني أن عبد الملك بن مروان قال للحجاج: ما من أحد إلا وهو عارف بعيوب نفسه، فعب نفسك ولا تخبأ منها شيئاً. قال: يا أمير المؤمنين أنا لجوج حقود. فقال له عبد الملك: إذاً بينك وبين إبليس نسب. فقال: إن الشيطان إذا رآني سالمني.
قال الحسن: سمعت علياً على المنبر يقول: اللهم ائتمنتهم فخافوني، ونصحتهم فغشوني، اللهم فسلط عليهم غلام ثقيف يحكم في دمائهم وأموالهم بحكم الجاهلية! فوصفه وهو يقول: الزيال، مفجر الأنهار، يأكل خضرتها ويلبس فروتها. قال الحسن: هذه والله صفة الحجاج.
قال حبيب بن أبي ثابت: قال علي لرجل: لا تموت حتى تدرك فتى ثقيف. قيل له: يا أمير المؤمنين ما فتى ثقيف؟ قال: ليقالن له يوم القيامة اكفنا زاوية من زوايا جهنم، رجل يملك عشرين أو بضعاً وعشرين سنة لا يدع الله معصية إلا ارتكبها حتى لو لم تبق إلا معصية واحدة وبينه وبينها باب مغلق لكسره حتى يرتكبها، يقتل بمن أطاعه من عصاه.
وقيل: أحصي من قتله الحجاج صبراً فكانوا مائة ألف وعشرين ألفاً. وقيل: إن الحجاج مر بخالد بن يزيد بن معاوية وهو يخطر في مشيته، فقال رجل لخالد: من هذا؟ قال خالد: بخ بخ! هذا عمرو بن العاص. فسمعهما الحجاج فرجع وقال: والله ما يسرني أن العاص ولدني، ولكني ابن الأشياخ من ثقيف والعقائل من قريش، وأنا الذي ضربت بسيفي هذا مائة ألف، كلهم يشهد أن أباك كان يشرب الخمر ويضمر الكفر. ثم ولى وهو يقول: بخ بخ عمرو بن العاص! فهو قد اعترف في بعض أيامه بمائة ألف قتيل على ذنب واحد.